الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وَقَدْ رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَرَضَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ وَنَزَلَ جِبْرِيلُ ظُهْرَ ذَلِكَ الْيَوْمِ لِيُصَلِّيَ بِهِ فَغَمَزَ الْأَرْضَ بِعَقِبِهِ، فَأَنْبَعَتْ مَاءً، وَتَوَضَّأَ مُعَلِّمًا لَهُ، وَتَوَضَّأَ هُوَ مَعَهُ، وَصَلَّى، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ».وَهَذَا صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَرْوِهِ أَهْلُ الصَّحِيحِ، وَلَكِنَّهُمْ تَرَكُوهُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَحْتَاجُوا إلَيْهِ، وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ السَّيِّدُ وَالْعُلَمَاءُ يَتَغَافَلُونَ عَنْ الْحَدِيثِ الَّذِي لَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ، وَإِنْ ذَهَبَ.وَيَكْرَهُونَ أَنْ يَبْتَدِئُوا بِذِكْرِهِ حَتَّى يُحْتَاجَ إلَيْهِ بِخِلَافِ الْقُرْآنِ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}: هَذَا الْخِطَابُ وَإِنْ كَانَ مُصَرِّحًا بِالْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّ الْكَافِرِينَ دَاخِلُونَ فِيهِ؛ لِمَا ثَبَتَ مِنْ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ فِي فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ بِالْأَدِلَّةِ الْقَاطِعَةِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هَاهُنَا خَصَّ الْخِطَابَ الْمُلْزِمَ لِلْإِيمَانِ؛ لِأَنَّ النَّازِلَةَ عَرَضَتْ لَهُ، وَالْقِصَّةَ دَارَتْ عَلَيْهِ.الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ لَنَا شَيْخُنَا فَخْرُ الْإِسْلَامِ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ}: مَعْنَاهُ: إذَا أَرَدْتُمْ الْقِيَامَ إلَى الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ الْوُضُوءَ حَالَةَ الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ لَا يُمْكِنُ، وَالْإِرَادَةُ هِيَ النِّيَّةُ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النِّيَّةَ فِي الطَّهَارَةِ وَاجِبَةٌ فِيهِ.وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ.وَرَوَى الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ.وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَهِيَ مِنْ طُيُولِيَّاتِ مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِيهِ.وَالْأَصْلُ الْمُحَقَّقُ أَنَّهَا عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ بِدَلِيلِ أَنَّهَا شَطْرُ الْإِيمَانِ، وَالْعِبَادَاتُ لَا يُتَعَبَّدُ بِهَا إلَّا مَعَ النِّيَّةِ، وَيُخَالِفُ الشَّعْبِيُّ إلَّا الْجُمُعَةَ.فَإِنَّهُ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ مَقْصُودَةٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: مَعْنَاهُ إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ مِنْ النَّوْمِ، وَفِي ذَلِكَ نَزَلَتْ الْآيَةُ.وَبَيَّنَ هَذَا أَنَّ النَّوْمَ حَدَثٌ، وَبِهِ قَالَ جُمْلَةُ الْأُمَّةِ، سَمِعْت عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَرَاهُ حَدَثًا، وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ عِنْدِي عَنْهُ.وَرُوِيَ لِي عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ حَدَثًا.وَالدَّلِيلُ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِهِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي النَّائِمِينَ، فَلابد أَنْ يَتَنَاوَلَهُمْ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ وَالْخَبَرَ إذَا كَانَ الَّذِي أَثَارَهُمَا سَبَبًا فَلابد مِنْ دُخُولِ السَّبَبِ فِيهِمَا، وَإِنْ كَانَ الْخِلَافُ وَرَاءَ ذَلِكَ هَلْ يَقْتَصِرُ عَلَيْهَا الْحُكْمُ بِهِمَا أَمْ يَكُونَانِ عَلَى عُمُومِهِمَا؟ وَثَبَتَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ قَالَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا كُنَّا فِي سَفَرٍ أَلَّا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيِهِنَّ إلَّا مِنْ جَنَابَةٍ، وَلَكِنْ مِنْ بَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ وَنَوْمٍ».وَالْأَمْرُ أَظْهَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنْ أَرَدْنَا أَنْ نُعَرِّفَكُمْ وُجُودَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ، وَفِي صَحِيحِ حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثُ صَفْوَانَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: إذَا ثَبَتَ أَنَّ النَّوْمَ حَدَثٌ فَهُوَ حَدَثٌ لِمَا يَصْحَبُهُ غَالِبًا مِنْ خُرُوجِ الْخَارِج.وَقَالَ الْمُزَنِيّ: هُوَ حَدَثٌ بِعَيْنِهِ، وَهَذَا بَاطِلٌ فَإِنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَنَامُونَ وَلَا يَتَوَضَّئُونَ.وَمِنْهُ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَّرَ صَلَاةَ الْعِشَاءِ ذَاتَ لَيْلَةٍ حَتَّى رَقَدَ النَّاسُ وَاسْتَيْقَظُوا.وَفِيهِ أَنَّهُ قَالَ: أُقِيمَتْ صَلَاةُ الْعِشَاءِ.فَقَامَ رَجُلٌ يُنَاجِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نَامَ الْقَوْمُ ثُمَّ صَلَّوْا».الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: وَإِذَا ثَبَتَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ فَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا تَفْصِيلَهُ فِي النَّوَازِلِ الْفِقْهِيَّةِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ مَنْ اسْتَثْقَلَ نَوْمًا عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ مِنْ الْأَحْوَالِ فَإِنَّ عَلَيْهِ الْوُضُوءَ.وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ نَامَ عَلَى هَيْئَةٍ مِنْ هَيْئَاتِ الصَّلَاةِ لَمْ يَبْطُلْ وُضُوءُهُ، وَوَافَقَهُ ابْنُ حَبِيبٍ فِي الرُّكُوعِ، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: «نَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ سَاجِدٌ حَتَّى نَفَخَ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى؛ فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إنَّك قَدْ نِمْت.فَقَالَ: إنَّ الْوُضُوءَ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا، فَإِنَّهُ إذَا اضْطَجَعَ اسْتَرْخَتْ مَفَاصِلُهُ».خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُد أَنْكَرَهُ، فَقَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَحْفُوظًا، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ: «تَنَامُ عَيْنَايَ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي».وَالْحَدِيثُ الثَّانِي قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ قَائِمًا أَوْ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا؛ إنَّمَا الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا، فَإِنَّهُ إذَا اضْطَجَعَ اسْتَرْخَتْ مَفَاصِلُهُ».وَهُوَ بَاطِلٌ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَأَوْضَحْنَا خَلَلَهُ.وَأَمَّا ابْنُ حَبِيبٍ فِي الرُّكُوعِ فَإِنَّمَا بَنَى عَلَى أَنَّ الرَّاكِعَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَسْتَثْقِلَ نَوْمًا وَيَثْبُتَ رَاكِعًا، فَدَلَّ أَنَّ نَوْمَهُ ثَبَاتٌ وَخُلَسٌ لَا شَيْءَ فِيهَا.الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: إذَا ثَبَتَ الْوُضُوءُ فِي النَّوْمِ فَالْإِغْمَاءُ فَوْقَهُ أَوْ مِثْلُهُ.الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي الْوُضُوءَ عَلَى كُلِّ قَائِمٍ إلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ نَزَلَتْ فِي النَّائِمِينَ، وَإِيَّاهُمْ صَادَفَ الْخِطَابُ، وَلَكِنَّا مِمَّنْ يَأْخُذُ بِمُطْلَقِ الْخِطَابِ وَلَا يَرْبِطُ الْحُكْمَ بِالْأَسْبَابِ، وَكَذَلِكَ كُنَّا نَقُولُ: إنَّ الْوُضُوءَ يَلْزَمُ لِكُلِّ قَائِمٍ إلَى الصَّلَاةِ مُحْدِثًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُحْدِثٍ، إلَّا أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَوَى: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ.قُلْت: كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ أَنْتُمْ؟ قَالَ: كَانَ يَجْزِي أَحَدَنَا الْوُضُوءُ مَا لَمْ يُحْدِثْ».خَرَّجَهُ جَمِيعُ الْأَئِمَّةِ.وَرَوَى ابْنُ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ صَلَّى الصَّلَوَاتِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ.فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَعَلْت شَيْئًا لَمْ تَكُنْ تَفْعَلُهُ.فَقَالَ: عَمْدًا فَعَلْته».أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ.فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ يَتَكَرَّرُ الْحُكْمُ بِتَكَرُّرِ الشَّرْطِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قُلْتُمْ بِتَكَرُّرِهِ أَحَلْتُمْ، وَإِنْ قُلْتُمْ لَا يَتَكَرَّرُ فَمَا وَجْهُهُ؟ قُلْنَا: مِنْ الْمُتَعَجْرِفِينَ مَنْ تَكَلَّفَ فَقَالَ: إنَّمَا يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الْعِلَّةِ، وَهُوَ الْحَدَثُ.وَهَذَا لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّ الْحَدَثَ لَا يُوجِبُ الطَّهَارَةَ لِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا وُجُوبُ الصَّلَاةِ يُوجِبُ الطَّهَارَةَ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمُكَلَّفُ مُحْدِثًا، فَالْحَدَثُ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ الطَّهَارَةِ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ لَا عِلَّتِهِ.وَالْحُكْمُ عِلَّةٌ لِلْحُكْمِ شَرْعًا، وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ.وَقَدْ أَحْدَثَ بَعْضُ الْمُبْتَدِعَةِ فِي الْإِسْلَامِ بِدْعَةً شَنْعَاءَ، فَقَالَ: إنَّ الْمُحْدِثَ لَا يُؤْمَرُ بِالصَّلَاةِ، إنَّمَا يُؤْمَرُ بِالْوُضُوءِ، وَعَلَيْهِ يُثَابُ، وَعَلَيْهِ يُعَاقَبُ، وَلَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ حَتَّى يَتَوَضَّأَ.وَهَذَا خَرْقٌ لِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَهَتْكٌ لِحِجَابِ الشَّرِيعَةِ.وَهَذِهِ الْآيَةُ وَأَمْثَالُهَا رَدٌّ عَلَيْهِ إنْ أَقَرَّ بِثُبُوتِهِ، وَإِنْ أَنْكَرَهُ فَإِنَّ مَنْ يُنْكِرُ التَّوْحِيدَ مُخَاطَبٌ بِتَصْدِيقِ الرَّسُولِ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ مِنْهُ إلَّا بَعْدَ تَوْحِيدِ الرَّبِّ، وَهَذَا مَا لَا جَوَابَ لَهُمْ عَنْهُ.الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا}: الْفَاءُ حَرْفٌ يَقْتَضِي الرَّبْطَ وَالسَّبَبَ وَهُوَ بِمَعْنَى التَّعْقِيبِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي رِسَالَةِ الْمُلْجِئَةِ، وَهِيَ هَاهُنَا جَوَابٌ لِلشَّرْطِ رَبَطَتْ الْمَشْرُوطَ بِهِ وَجَعَلَتْهُ جَوَابَهُ أَوْ جَزَاءَهُ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ؛ بَيْدَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ مِنْ عُلَمَائِنَا فِي وُجُوبِ التَّرْتِيبِ فِي الْوُضُوءِ قَالَ: إنَّ فِي هَذَا دَلِيلًا عَلَى وُجُوبِ الْبُدَاءَةِ بِالْوَجْهِ؛ إذْ هُوَ جَزَاءُ الشَّرْطِ وَجَوَابُهُ.وَقَالَ الْآخَرُونَ الَّذِينَ لَا يَرَوْنَ تَرْتِيبَ الْوُضُوءِ: إنَّ هَذَا الْقَوْلَ صَحِيحٌ فِيمَا إذَا كَانَ جَوَابُ الشَّرْطِ مَعْنًى وَاحِدًا؛ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ جُمَلٌ كُلُّهَا جَوَابًا وَجَزَاءً لَمْ نُبَالِ بِأَيِّهِمَا بَدَأَتْ؛ إذْ الْمَطْلُوبُ تَحْصِيلُهَا.وَهَذَا قَوْلٌ لَهُ رَوْنَقٌ وَلَيْسَ بِمُحَقَّقٍ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}؛ فَبَدَأَ بِالْوَجْهِ وَعَطَفَ عَلَيْهِ غَيْرَهُ، فَالنَّظَرُ الصَّحِيحُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: تَجِبُ الْبُدَاءَةُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ وَهُوَ الْوَجْهُ، كَمَا «قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ حَجَّ وَجَاءَ إلَى الصَّفَا: نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ»، وَكَانَتْ الْبُدَاءَةُ بِالصَّفَا وَاجِبَةً.وَيَعْضُدُ هَذَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ عُمْرَهُ كُلَّهُ مُرَتِّبًا تَرْتِيبَ الْقُرْآنِ، وَفِعْلُهُ هَذَا بَيَانُ مُجْمَلِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَبَيَانُ الْمُجْمَلِ الْوَاجِبِ وَاجِبٌ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ عُظْمَى قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُخْتَارُ فِيهَا.الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَاغْسِلُوا}: وَظَنَّ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ عِنْدَ أَصْحَابِهِ مَعْدِ بْنِ عَدْنَانَ فِي الْفَصَاحَةِ بَلْهُ أَبِي حَنِيفَةَ وَسِوَاهُ أَنَّ الْغَسْلَ صَبُّ الْمَاءِ عَلَى الْمَغْسُولِ مِنْ غَيْرِ عَرْكٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَفِي سُورَةِ النِّسَاءِ، وَحَقَّقْنَا أَنَّ الْغَسْلَ مَرُّ الْيَدِ مَعَ إمْرَارِ الْمَاءِ أَوْ مَا فِي مَعْنَى الْيَدِ.الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: الْغَسْلُ يَقْتَضِي مَغْسُولًا مُطْلَقًا وَمَغْسُولًا بِهِ: وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِيمَا بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {وُجُوهَكُمْ}: وَالْوَجْهُ فِي اللُّغَةِ: مَا بَرَزَ مِنْ بَدَنِهِ وَوَاجَهَ غَيْرَهُ بِهِ، وَهُوَ أَبْيَنُ مِنْ أَنْ يُبَيَّنَ، وَأَوْجَهُ مِنْ أَنْ يُوَجَّهَ، وَهُوَ عِنْدَ الْعَرَبِ عُضْوٌ يَشْتَمِلُ عَلَى جُمْلَةِ أَعْضَاءٍ، وَمَحَلٌّ مِنْ الْجَسَدِ فِيهِ أَرْبَعُ طُرُقٍ لِلْعُلُومِ، وَلَهُ طُولٌ وَعَرْضٌ، وَهُوَ أَيْضًا بَيِّنٌ إلَّا أَنَّهُ أَشْكَلَ عَلَى الْفُقَهَاءِ مِنْهُ سِتَّةُ مَعَانٍ: الْأَوَّلُ: إذَا اكْتَسَى الذَّقَنُ بِالشَّعْرِ، فَإِنَّهُ قَدْ انْتَقَلَ الْفَرْضُ فِيمَا يُقَابِلُهُ إلَى الشَّعْرِ قَطْعًا وَنَفْيِ الزَّائِدِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَا اسْتَرْسَلَ مِنْ اللِّحْيَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَرْضًا؛ لِأَنَّهُ قَدْ اتَّصَلَ بِالْوَجْهِ وَوَاجَهَ كَمَا يُوَاجَهُ، فَيَكُونُ فَرْضًا غَسْلُهُ مِثْلُ الْوَجْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَدْبًا، وَبِالْأَوَّلِ أَقُولُ؛ لِمَا ثَبَتَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَغْسِلُ لِحْيَتَهُ».أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، فَعُيِّنَ الْمُحْتَمَلُ بِالْفِعْلِ.الثَّانِي: إذَا دَارَ الْعِذَارُ عَلَى الْخَدِّ، هَلْ يَلْزَمُ غَسْلُ مَا وَرَاءَهُ إلَى الْأُذُنِ أَمْ لَا؟ وَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنَنَا فِي أَنْفُسِنَا وَبَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَيْضًا غَيْرِنَا.وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ غَسْلُهُ لَا لِلْأَمْرَدِ وَلَا لِلْمُعْذِرِ.الثَّالِثُ: الْفَمُ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَجَمَاعَةٌ: إنَّ غَسْلَهُ فِي الْوُضُوءِ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْوَجْهِ؛ وَقَدْ وَاظَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ.وَقَالَ: «إذَا تَمَضْمَضَ خَرَجَتْ الْخَطَايَا مِنْ فِيهِ».الرَّابِعُ: الْأَنْفُ، وَقَدْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، فَقَالَ: «إذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً ثُمَّ لِيَسْتَنْثِرْ، وَمَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ».وَقَالَ أَيْضًا: «فَإِذَا اسْتَنْثَرَ خَرَجَتْ الْخَطَايَا مِنْ أَنْفِهِ».الْخَامِسُ: الْعَيْنُ، وَالْحُكْمُ فِيهَا وَاحِدٌ أَثَرًا وَنَظَرًا وَلُغَةً، وَلَكِنْ سَقَطَ غَسْلُهَا لِلتَّأَذِّي بِذَلِكَ وَالْحَرَجِ بِهِ، وَلِذَلِكَ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَمَّا عَمِيَ يَغْسِلُ عَيْنَيْهِ إذْ كَانَ لَا يَتَأَذَّى بِذَلِكَ.السَّادِسُ: لَا خِلَافَ أَنَّهُ لابد مِنْ غَسْلِ جُزْءٍ مِنْ الرَّأْسِ مَعَ الْوَجْهِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ فِيهِ، كَمَا أَنَّهُ لابد عَلَى الْقَوْلِ بِوُجُوبِ عُمُومِ مَسْحِ الرَّأْسِ مِنْ مَسْحِ جُزْءٍ مَعَهُ مِنْ الْوَجْهِ لَا يَتَقَدَّرُ، وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ مَنْ أُصُولِ الْفِقْهِ؛ وَهُوَ أَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ مِثْلُهُ؛ وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ؛ فَهَذِهِ تَتِمَّةُ تِسْعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً.الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ: قَالَ لَنَا فَخْرُ الْإِسْلَامِ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ فِي الدَّرْسِ: لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} كَانَ مَعْنَاهُ ضَرُورَةَ اللُّغَةِ: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ؛ وَذَكَرَ أَمْثِلَةً بَيَّنَّاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ؛ فَاقْتَضَى الْأَمْرُ بِظَاهِرِهِ غَسْلَ الْوَجْهِ لِلصَّلَاةِ، فَمَنْ غَسَلَهُ لِغَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُمْتَثِلًا لِلْأَمْرِ.وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ، هَاهُنَا كَلَامًا مُخْتَلًّا وَهِيَ:الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: وَنَصُّهُ: «ظَنَّ ظَانُّونَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ الَّذِينَ يُوجِبُونَ النِّيَّةَ فِي الْوُضُوءِ أَنَّهُ لَمَّا أَوْجَبَ الْوُضُوءَ عِنْدَ الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَوْجَبَهُ لِأَجْلِهِ، وَأَنَّهُ أَوْجَبَ بِهِ النِّيَّةَ؛ وَهَذَا لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّ إيجَابَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ الْوُضُوءَ لِأَجْلِ الْحَدَثِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْوِيَ ذَلِكَ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَجِبَ لِأَجْلِهِ وَيَحْصُلَ دُونَ قَصْدِ تَعْلِيقِ الطَّهَارَةِ بِالصَّلَاةِ وَبِنِيَّتِهَا لِأَجْلِهِ» إلَى تَخْلِيطٍ زِيدَ عَلَيْهِ لَا أَرْضَى ذِكْرَهُ.
|